من يرى غزة اليوم لا يمكنه إلا أن يُصاب بالصدمة. مدنٌ وبلداتٌ، مخيماتٌ ومواقعُ مدنية، منشآتٌ تعليمية وصحية وحكومية، ومنازلُ المواطنين، جميعها سُويت بالأرض.

اختفت معالم طبيعية، وعمارات شاهقة، وأبراج شامخة، تحت الأنقاض. أما المخيمات المزدحمة في القطاع، التي كانت تجمع بين البساطة والفرح، وتُشكل محطات انتظار على أمل العودة إلى المدن التي هُجّر منها الأهالي قسرًا على يد عصابات الكيان الصهيوني، فلم تعد سوى أكوامٍ من الحجارة. لقد أصبحت "أثرًا بعد عين".

شوارعُ القطاع، ومساكنه السكنية، وحدائقُ الألعاب والمتنزهات، وحتى الوديان والأراضي الزراعية، كلها مُحيت. وكأن جغرافيا القطاع قد مُحيت، كما مُحيت آلاف الأسر من السجل المدني. أما الملاعب والصالات الرياضية والأندية، فلم تعد تلك المساحات الخضراء الجميلة، بل أصبحت أنقاضًا، مثلها مثل بقية البنية التحتية التي دمّـرت ونُسفت وجرفت.

شواطئُ الأمان، وساحلُ الأحلام، حَيثُ اعتاد الغزيون السباحة والتنزه وصيد الأسماك، تحولت اليوم إلى أماكن مخيفة، تفوح منها روائح كريهة، نتيجة التدمير الممنهج والعبث الصهيوني، الذي لم يُبقِ على شيء في غزة إلا وطاله خبثه وعدوانه الشيطاني.

غزة لم تعد مُجَـرّد "مدينة أشباح"، بل أصبحت مدينة مدمّـرة بالكامل، ترابًا ورمادًا. وما تبقى من ركام المنازل والأحياء، يحوي آلاف الحكايات، وآلاف الجثث لنساء وأطفال ومدنيين تحت الأنقاض، بعضها احترق، وبعضها تحول إلى رفاتٍ في الطرقات، ناهيك عن من دُفنوا في مقابر جماعية حفرها العدوّ الصهيوني.

إن رؤية قطاع غزة من الأعلى أمرٌ محزنٌ للغاية. كُـلّ شيء مختلف. لا مبانٍ، لا حياة، لا شيء. منذ بدء العدوان الصهيوني في أُكتوبر 2023، فُرض حظرٌ صارم على التصوير الجوي، واكتُفي بالصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية، والتي تتحكم بها قوى الهيمنة الأمريكية-الصهيونية. لكن لقطات تم تسريبها من طائرات "درون" استخدمها صحفيون دون علم العدوّ، كشفت ما كان مخفيًا طوال أشهر العدوان، الذي سعى إلى إخفاء الحقيقة عن العالم، تجنبًا للضجة الدولية، رغم علم الكيان أن العالم المنافق لن يتحَرّك لوقف جرائمه بحق المدنيين، لا سِـيَّـما النساء والأطفال.

بعد ثلاثة وعشرين شهرًا من هذا الكارثة، يعيش أهالي القطاع واقعًا مأساويًا، تعانيه النساء والأطفال قبل غيرهم، في ظل صلفٍ صهيوني مقيت، يزداد شرًا بمرور الوقت، ويُساعده على ذلك التطبيع العربي، والدعم الغربي، وخَاصَّة الأمريكي.

ينتقل السكان من مكان لآخر، وينزحون عشرات المرات في اليوم الواحد، جراء الوحشية والشهية العدوانية للدولة الصهيونية المتغطرسة، التي لا تنمو ولا تتوسع إلا على جثث البشر ودمائهم.

بعد هذه المشاهد المؤلمة والمناظر المقززة، ألا يحين الوقت لتحَرّك الإنسانية؟ ألا يحين الوقت لاستيقاظ الضمير العربي والإسلامي والعالمي، إن كان لا يزال يملك ذرة من إنسانية، كي يوقف العدوان ويرفع الحصار عن هذا الشعب المُحاصر، المُجوَّع، المُعذب؟ نأمل ذلك، رغم أن الأمل يبدو ضعيفًا أمام صمت العالم وتواطؤه.

يبقى الأمل في الله، وفي قدرة الشعوب على الضغط والتحَرّك؛ مِن أجلِ التغيير، وفي إرادَة الأحرار والمجاهدين الذين ما زالوا يقاومون، ويتمسكون بالأمل في غدٍ أفضل، ومعهم محور المقاومة، ويدعمهم شعب اليمن ومحور الصمود.

غزة التي دمّـرت، غزة التي قُتلت، غزة التي جُوعت، ستبقى رمزًا للصمود والتحدي، رمزًا للصبر والثبات. ستبقى في قلوبنا ذكرى لا تُمحى، وفي جغرافيا فلسطين والعروبة عنصرًا لا يتجزأ. وسيُندحر منها العدوّ الصهيوني، بذلته وخساسته، وسيخرج منها مهزومًا مشلولًا، بإذن الله سبحانه وتعالى. وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار.